فنّ الشعر والشعراء
ما النثر والشعر إلا جناحا الأدب العربي يطير بهما في سماء البلاغة والفصاحة، ويطوف بهما في أنحاء الحياة المختلفة، ولاغنى عنهما أو عن أحدهما.
ولا نستطيع الموازنة والمفاضلة بين الشعر والنثر، فلكل منهما رجال ومواقف ، وإبداع ولطائف، ولئن لم يكن القرآن المعجز شعرا،ً فهو أيضاً ليس مما عهده العرب من أصناف النثر.
ويكفي الشعر فخراً قول المصطفى عليه الصلاة والسلام " وإنّ من الشعر لحكمة ، وإنّ من البيان لسحرا ".(روى القسم الأول منه البخاري عن أبيّ ، والجزء الثاني رواه أحمد وأبو داود )
ولايضير الشعر أن الله سبحانه نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عنه، فذلك لعمري آية نبوة، وعلامة صدق فيه، كيف لا. وقد كان أبو بكر وعمر شاعرين وكان علي رضي الله عنهم أجمعين أشعر الثلاثة.
ما قيل في الشعر:
قال ابن فارس في فقه اللغة: والشعر ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين.
والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور،ويقدمون ويؤخرون، ويومئون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون.
تعريف الشعر:
وقد عُرّف الشعر بأنه كلام موزون مقفىّ، دالُُ على معنى، ويكون أكثر من بيت.
وقال بعضهم: هو الكلام الذي قصد إلى وزنه وتقفيته قصداً أولياً، فأما ما جاء عفو الخاطر من كلام لم يقصد به الشعر فلا يقال له شعر، وإن كان موزونا.
ويقول ابن خلدون فيه: هو كلام مفصل قطعاً قطعاً متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رَوِيّا وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة، وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو نسيب أو رثاء.
تاريخ الشعر ومبدؤه:
ولقد كان الشعر في العرب قديماً إلا أنه لم يكن إلا أبياتا.
يقول السيوطي في (المزهر): وإنما قُصّدت القصائد وطوّل الشعر على عهد عبد المطلب، أو هاشم بن عبد مناف. ثم يعود فينقل عن ثعلب في (أماليه) قول الأصمعي: أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر مهلهل ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة رجل من بني كنانة، والأضبطُ بن قريع. قال: وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير.
طبقات الشعراء:
ولهذا قسم ابن رشيق في كتابه (العمدة) طبقات الشعراء إلى أربع طبقات هي: جاهلي قديم، ومخضرم وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وإسلامي، ومحدث.
يقول: ثم صار المحدثون طبقات: أولى، وثانية على التدريج، هكذا في الهبوط إلى وقتنا هذا، فليعلم المتأخر مقدار ما بقي له من الشعر.
ومن جهة أخرى فقد قسم الشعراء من حيث إجادتهم إلى طبقات أيضاً:
فأعلاهم كعباً يقال له شاعر خنزيز، أي شاعر جيد وراوٍ للجيد.
وشاعر مفلِق، وهو جيد الشعر، دون أن يكون راوياً كالأول.
ثم شاعر فقط، وهو من كان فوق الرديء بدرجة.
وشعرور وهو لا شيء.
مشاهير الشعراء:
ولعل أشعر العرب قديماً وأشهرهم أصحاب المعلقات السبع السِّمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطَرَفة...
وكانت المعلقات تسمى المذهبات ـ يقول السيوطي ـ وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء.
أما عن شعراء ما بعد ذلك فهم كثير، وقد اشتهر على وجه الخصوص أبو تمام، والبحتري، وابن المعتز، والمتنبي، وأبو فراس، وأبو العلاء المعري، وابنُ هانئ الأندلسي، والشريف الرضي، وبشار بن برد، وأبو العتاهية، وابن الرومي، وابن خفاجة الأندلسي، ومؤيد الدين الطغرائي، والبهاء زهير...
وكما اشتهر هؤلاء بالشعر فقد اشتهر آخرون بروايته وتحمله إلى الناس، ومن هؤلاء الرواة المشهورين: الأصمعي، وحماد الكوفي، وخلف الأحمر البصري، وأبو عمرو بن العلاء، وعبيدة بن معمر بن المثنى، ومحمد بن سلام الجمحي وغيرهم.
وقد شهدت العصور المتأخرة للدولة الإسلامية ـ أي ما بعد القرن السابع الهجري ظهور شعراء لم يكونوا كالسابقين في براعتهم وإبداعهم وشهرتهم، مثل شرف الدين الأنصاري، والإمام البوصيري، والشاب الظريف، وابن الوردي، وصفي الدين الحلي، وابن مكانس، وابن معتوق الموسوي، وابن نباته.
وقد كان للشعر في عصر النهضة الحديثة أيضاً رجال فطاحل، أعادوا للقريض نضارته، وجددوا شبابه ومن أشهر هؤلاء : محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإسماعيل صبري.
فنون الشعر:
وكما استعرضنا فنون النثر فإن الفنون والأبواب التي طرقها الشعراء بشعرهم كثيرة، ولكن أشهرها ما يلي:
1ـ المديح. وأكثر ما مدح الشعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان هذا الضرب من المديح في المسلمين قديماً، بدأه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت، وتابعه بعد ذلك أفواج لا تنتهي من الشعراء وأفواج .
فمن ذلك ما قاله شوقي فيه صلى الله عليه وسلم:
محمـد صفـوة البـاري ورحمتــــه وبُغية الله من خلق ومن نَسَمِ
وصاحـب الحوض يـومَ الرسل سائلـةُُ متى الورودُ؟ وجبريل الأمين ظمي
سنــاؤه وسنـاءُ الشمـس طـالـعــة فالجِرم في فلكِ، والضوء في علمِ
ويقال إن أمدح بيت في الشعرالعربي قول جرير في عبد الملك:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
2ـ الفخر والحماسة: قال السموأل مفاخراً:
وإنا لقوم لا نري القتل سبـة إذا ما رأته عامر وسلول
يقـرب حب الموت آجالنـا لنا وتكرهـه آجالُـــهم فتطـــول
ومامات منا سيد حتفَ أنفـه ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباء نفوسنا وليس على غير الظباء تسيل
وقال الفرزدق:
لنا العزة القعساء والعدد الذي عليه إذا عُدّ الحصى يتخلف
ومنا الذي لا ينطق الناس عنـده ولكنْ هو المستأذَن المتصرف.
3ـ الوصف: ولعل هذا أوسع أبواب الشعر تصريفاً، وأكثرها مددا، فما غادر الشعراء شيئاً دون وصف:
قال صفي الدين الحلي يصف وادياً:
على الروض أستاراً من الورق الخضر
تعانقت الأغصـان فيـه فأسبلت
إلى روضة ألقـت شراكـاً من التبـر
إذا ما حبال الشمس منها تخلصت
وأنشد معروف الرصافي واصفاً قطار البخار:
وقاطـرة ترمـي الفضـا بدخانهــا وتملأ صدر الأرض في سيرها رعباً
تمشـت بنـا ليـلاً تجـر وراءهــا قطاراً كصف الدوح تسحبه سحباً
فطوراً كعصف الريح تجـري شـديدة وطوراً رُخاء كالنسيم إذا هبا
تساوي لديها السهل والصعب في السُّرى فما استسهلت سهلاً ولا استصعبت صعباً
4ـ ومما خاض الشعراء فيه بقوة بحر المراثي، فبكوا وأبكوا كثيراً
قال أبو البقاء الرندي يرثي الأندلس:
فجائع الدهر أنواع منوعــــة وللزمان مسرّات وأحـــــزانُ
وللحوادث سلوان يسهلهــــا وما لما حل بالإسلام سلــــوان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسـف كما بكى لفراق الإلف هيمـــان
على ديار من الإسلام خاليـــة قد أقفرت ولها بالكفر عمـــران
وقالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:
تبكى خُنُاسُُ على صخرٍ وحق لها إذ رابها الدهر إن الدهر ضرّار
ياصخر ورّادَ ماء قد تــوارده أهل الموارد مافي ورده عــار
وإن صخراً لحامينا وسيدنـــا وإن صخراً إذا نشتوا لنحـّــار
وإن صخراً لتأتم الهداة بــــه كأنه علم في رأســـه نـــار
5ـ وقد خاض الشعراء في أبواب أخرى كثيرة، بعضها مشهور مثل الهجاء والغزل والحكم، وبعضها قليل مثل العلوم التي صاغها بعض الشعراء صياغة شعرية، لتسهيل حفظها، أو التاريخ الذي صبه بعضهم في قوالب شعرية.
العَروض... مركب الشعر والشعراء:
ولا يفوتنا ـ قبل أن نختم الحديث عن الشعر والشعراء ـ أن ننوه بعلم لاحق للشعر وضباط له، وهو علم العروض الذي هو: معرفة الأوزان المعتبرة للشعر.
وأول من اخترع هذا الفن الإمام الخليل بن أحمد، تتبع أشعار العرب وحصرها في خمسة عشر وزناً، وسمي كلاً منها بحراً، ثم تابع الجوهري علم الخليل فهذب العروض، ثم لحق بهما الأخفش.
وقد كتب العلماء في العروض كتباً، مثل عروض ابن الحاجب، والخطيب، والتبريزي، وعروض الخزرجي، وشفاء العليل في علم الخليل لأمين الدين المحليّ.
وفي الختام، فإن الشعر بحر العرب الذي أشرفوا على سواحله من كل جانب، ومخروا عبابه بكل سفين، وصبوا في قوالبه كل معنى. وهناك ألوف وألوف من دواوين الشعراء لا تقع تحت حصر.