يبدو أن الصينيين وفوا بوعدهم أن «بكين جديدة» هي مضيفة الألعاب الأولمبية ودورتها. منذ ترجل المرء من الطائرة، يرى بكين الجديدة الموعودة ومعالمها، بدءاً بمحطة المسافرين في المطار، وهي الأكبر في العالم، والطريق السريع الواسع المحاط بالأشجار، وصولاً الى ناطحات السحاب الكثيرة ومرايا زجاج واجهاتها وجدرانها. وناطحات السحاب البكينية ضخمة وعالية. وبعضها جميل، وبعضها الآخر غريب.
والحق أن بكين الجديدة هي ثمرة قرار استراتيجي يستعرض على الملأ سلطان الصين الصاعدة. فهذا الفيض المديني هو رسالة وجهتها الصين الى العالم، وتريد القول بأجلى عبارة أن المارد الصيني انبعث، وأن طموحات الصين كبيرة. والى وقت قريب، كانت بكين الجديدة مجموعة من الورشات المليئة بالعمال. وبلغت تكلفة تشييد بكين الجديدة، وترميم بعض الشوارع السكنية المتهاوية، 40 بليون دولار. فبكين تواقة الى اعتراف العالم بمكانتها، وهو توق لم تعرفه المدن الأولمبية من قبل.
ولا شك في ان الألعاب الأولمبية ما هي إلا ذريعة تشييد بكين الجديدة. فطوال الأعوام الماضية، نفد صبر الصين من انتظار استواء بلدهم قوة كبرى. ولكن حمى مواكبة الصين حداثة العالم المعاصر ودخولها الى ناديه، لم تصب بكين، العاصمة الصينية التي بقيت منكمشة ومتقوقعة على نفسها، وعلى عاداتها المحافظة، بل أصابت مدن شانزن وكانتون وشانغهاي، إثر انتصار دينغ زياوبينغ على «عصابة الأربعة» في نهاية 1978. واتسعت هذه المدن ودخلت عالم الاقتصاد على وقع الثقافة الآسيوية - الهادئة (نسبة الى الدول المطلة على المحيط الهادئ). وصار قبول الفارق الشاسع بين حال بكين وحال المدن الأخرى النامية عسيراً. فتكبُر تجار مدن الجنوب، ونشاطهم أثارا سخط موظفي الشمال البيروقراطيين. فهم كذلك كانوا يحلمون بـ «الغطس في البحر» (أو «كساي هاي»)، أي الانطلاق في عالم الاعمال.
وأصابت استضافة بكين الألعاب الأولمبية عصفورين جيو سياسيين، إذا صح القول، بحجر واحد، الأول إبهار العالم ، والثاني تدجين بكين إمبراطورية الداخل الصيني. وبكين هي مسرح أعمال تشييد وبناء كبيرة لم تعرفها مدن التاريخ المعاصر، ما خلا المدن التي دمرتها الحرب. فالشوارع التاريخية، والممرات الضيقة الحلزونية، الـ «هوتونغ»، المحيطة بـ «سيهيوان» (منازل الأحواش) دمرت. ولطالما فاحت في هذه الأمكنة، وهي حافلة بالتاريخ والذاكرة وتفتقر الى وسائل الراحة والرفاهية، رائحة بكين. واندثرت الشوارع الضيقة. وفيها درج البائعون على الانحناء على دراجاتهم، وزبائنُ سوق الخضار على المرور حاملين الخضار، وتلامذةُ المدارس على التهام تفاح مغمس بالكراميل.
والى تسعينات القرن الماضي، بقيت بكين مكاناً يختلط فيه التهكم الشعبي الساخر بالميول الماوية الضعيفة. وعلى أنقاض بكين، المدينة القديمة، قامت المراكز التجارية ومكاتب الأعمال، والمجمعات السكنية الجديدة. وتغيرت هندسة المدينة، وانقلبت رأساً على عقب. فبكين المدينة المسطحة والأفقية تحولت الى مدينة عمودية مليئة بالمباني المرتفعة وناطحات السحاب. وأنشأها، في 1267، الإمبراطور المغولي، قبولاي خان، حفيد جنكيز خان، واستُكمل بناؤها في مطلع القرن الخامس عشر.
ولطالما كانت مدينة متقوقعة على داخلها وجاثية أمام السماء. ولم تدمر بكين في أثناء الحوادث والوقائع العاصفة، بل في أوقات السلم. فبعد استلام الثورة الشيوعية السلطة في 1950، أمر ماو تسي تونغ بتدمير أسوار المدينة. فهو حسب أن الأسوار تراث إقطاعي، ويجب محو أثره. وعليه، استبدل المحور التقليدي الشمالي- الجنوبي، وهو محور رمزي نظّم الحيز المكاني، حيث يحتمي الإمبراطور في الجنوب من رياح الشمال، بمحور شرقي - غربي تقع فيه جادة شانغ آن (السلام) حيث ألقى ماو تسي تونغ خطبه.
ولم يقتصر الانقلاب على المدن. فهو اجتماعي من طريق تقاطعات كبيرة وعريضة وتظاهرات مثل نفي الطبقات الشعبية المتواضعة من أحيائها القديمة، واضطرارها الى الإقامة في الضواحي الملحقة المتكاثرة. وفي الأثناء ارتقت نخبة اجتماعية جديدة، يبلغ أفرادها الأربعين لتوهم، تهوى التكنولوجيا الأخيرة وتتعاطى التصدير والاستيراد. وينزلون الفاتحون هؤلاء في شقق وبيوت سماها تجار الأحلام «بوبوسيتي»، أو «بيوت التايكونز» أو «كلاس». وبين الدائرتين تقيم الطبقة المتوسطة. وهذه تملكت الملكيات العقارية، ويسعها الإقامة، بين البوليفار الدائري الثالث وبين الخامس، في بيوت تحوطها حدائق خضراء يانعة.
وبكين الجديدة هذه يبهرها العالم الأوسع، وتنتشي بالأشكال المعولمة. فدعي كبار المعماريين العالميين الى إخصاب إعمار العاصمة الصينية. ولا يخلو هذا من مفارقة: فالحكم قومي المنزع، على ما يعلن ويجهر. وبجوار الطراز الإمبراطوري الذي يسود المدينة الممنوعة، واليوناني - التاليين الذي يصبغ بصبغته قصر الشعب، انتشرت مبانٍ تتنافس على الجدة والابتكار المفرطين، من غير أن ينكر الأمر غير قلة من المتحفظين. فمن مطار بكين وقبته السماوية (من تصميم نورمان فوستير) الى الملعب الأولمبي على صورة عش العصفور (هرزوغ ودومورون)، وبينهما مركز التلفزيون وبنيته الخارجة عن محورها (رِم كولاس)، ومبنى الأوبرا على شاكلةٍ إهليجية طافية على صفحة الماء (بول أندرو)، ومحطة سكة الحديد في تشيزيمين وأبراجها الثلاثة على رسم رأس سمكة (جان - ماري دوتيول) - الأعمال الكثيرة هذه شاهد على نزعة كوسموبوليتية لا تنكر.
وتكثر، ما دون الأعمال البارزة والمتألقة هذه، أعمال كثيرة أنجزها جيل جديد من المعماريين الصينيين. وتسهم، شأن الأولى، في رهافة خطوط بكين، وتبث الأناقة حيث كانت الصروح المتشاوفة تغلب. فبكين لم تعد متحصنة من نظرة العالم إليها، ورأيه فيها. وفي أوج أعمال التحطيم والتدمير، حين أذعن الناس لانتصار شركات المضاربة العقارية، كان صدور تحفظ من الخارج عن التحطيم كافياً ليستجيب بعض البيروقراطيين العمليين، ويكفّ أذى بعض البلدوزورات. وأنقذت بعض الواحات، منها حي داسانزي الفني، على سبيل المثال، وكان مقدراً أن يهدم ويمهد بالأرض.
وبينما كانت المعارض والمقاصف ودور التصوير والمحترَفات والمطاعم تزدهر في الدائرة هذه، وتستدرج مدائح الأجانب وحماستهم، فكر الحكم ملياً في المضي على أعمال الهدم. فهو لا يكن التقدير ولا الاحترام لأهل هذه المرافق وإنجازاتهم الخرقاء والغريبة، ولكن قد يكون وراء الأكمة ما وراءها من معانٍ لا يفقهها الحكم ولا يحتسبها. فترك الدائرة هذه الى إعجاب المعجبين الدوليين وتثمينهم، ما داما يعودان على المدينة بالتقدير. وعلى هذا رزق حي داسانزي بحظ ثانٍ في البقاء. وقاوم الهدم حي هوهاي (البحيرة الخلفية). وأوكل الحكم إليه الحفاظ على ثقافة الهوتانغ، وهي السكك الضيقة الشهيرة التي أفجع هدمها عشاق بكين القديمة. والحق أن الهوتانغ المتبقية شاحبة. فهي كانت مهد حياة، وحضن ثقافة شعبية. وتقتصر اليوم على موضوع فضول سياحي يستقطب أمواج دراجات الجولات المنظمة، وأنشئت على ضفاف البحيرة جادة تلتمع عليها أضواء المقاصف والمطاعم التي تضج بالموسيقى الصاخبة.
ومن شاء شم روائح بكين القديمة ما عليه إلا اقتفاء أثر أهل بكين العريقين. فهؤلاء لا يزالون أحياء. ومواطنهم التي تهفو قلوبهم إليها هي الحدائق: حديقة رابية الفحم (جينكزهان)، وحديقة بحيرة الشمال (بايهاي)، وحديقة هيكل الشمس (ريتان)، وحديقة هيكل السماء (تيانتان)، وحديقة هيكل القمر (يويتان)... ولا شك في أن روح بكين القديمة التجأت الى الزواريب المتداخلة التي تتوجها أشجار السرو، ولاذت بها. وهناك يتناوب المتقاعدون على الرقص والغناء والإنشاد، ويرسمون ويصورون على البلاط والإسمنت رسومهم وتصاويرهم بريشة مبتلة بالماء، أو يعلقون على غصن شجرة قفص عصفور. فهم خفيفون خفة ثقافة معلقة، مرت الألعاب الأولمبية من هنا أم لم تمر.