الأولمبياد... وصعود القوة الصينية

لن يراود الشك أي شخص شاهد الحفل الافتتاحي للألعاب الأولمبية 2008 يوم 8 أغسطس الجاري، في أن أمل الصين في إبهار العالم بحفل افتتاح أولمبي ليس له مثيل، قد تحقق بصورة جاوزت كل التوقعات التي كانت سائدة قبل انطلاق الدورة. فضخامة ذلك الحفل، وعبقرية منظميه المُبهرة، قامتا كدليلين على أن الصين، كانت عاقدة العزم على جعل الدورة الأولمبية الـ29، مناسبة لا تنسى على مر السنين، على رغم كافة الاتهامات والشكوك التي أثارتها بعض الدول بشأن مشكلات الصين البيئية، وحملات القمع الأمنية التي شنتها على بعض المناوئين، والتي كان آخرها تلك التي شنتها على المعارضين المنتمين إلى إقليم التبت.

كان هدف الصين الأول هو إبهار العالم من وراء تنظيم الأولمبياد، وهو ما تحقق بصورة تجاوزت توقعات أكثر المتفائلين. أما هدفها الثاني فكان إحراز أكبر عدد ممكن من الميداليات الذهبية. وإذا ما أخذنا في حسباننا المهارة والتفوق اللذين يتميز بهما الصينيون في عدد كبير من الرياضات الأولمبية، فإننا سندرك أن هذا الإنجاز في متناول أيديهم أيضاً، ولن يعانوا صعوبة كبيرة في تحقيقه. وهناك احتمال بالطبع أن يحدث تطور سيئ، أو خطأ جسيم، أو حادث مؤسف، خلال أيام الدورة، حدوث حالة من التلوث الشديد في العاصمة، أو مظاهرات ذات طابع سياسي، أو أعمال شغب تؤثر على الحالة الأمنية، أو حتى وقوع حادث إرهابي يلقي بظلال كثيفة على أجواء الإمتاع والإبهار. وذلك كله وارد بالطبع. وإن كان ما سُجل حتى الآن هو أن كافة المناسبات والفعاليات الرياضية، قد مرت بسلام، وبمستوى راقٍ فاق كافة التوقعات الإعلامية.

والشيء الآخر الذي فاق توقعات الصينيين، الذين ينظرون إليه على أنه لا يقل أهمية عن إنجازهم في افتتاح الأولمبياد، وإحراز الميداليات الذهبية، هو الثناء الذي انهمر على بلادهم من قبل رؤساء الدول الذين تدفقوا على بكين لحضور الحفل الافتتاحي، أو حتى للبقاء لبعض الوقت لتشجيع فرق بلادهم. والأمر البالغ الدلالة في هذا السياق هو أن الرئيس جورج بوش نفسه، قد ظل في العاصمة الصينية لمدة أربعة أيام كاملة، وهي بالمناسبة أطول مدة يقيم فيها في مدينة أجنبية واحدة منذ أن أصبح رئيساً للولايات المتحدة. وحضور بوش شخصياً لبعض فعاليات السباحة، وكرة السلة، والكرة الطائرة، كان بمثابة حدث دعائي استثنائي بالنسبة للصين. ولم يكتفِ بوش بالحضور بل أدلى بتصريح لاشك أنه قد أسعد الصينيين كثيراً قال فيه إن: "التجربة قد فاقت توقعاته". وعلى رغم أن الفريق الأميركي لكرة السلة الذي يعد من أقوى فرق العالم، لم يجد صعوبة في هزيمة نظيره الصيني في أول لقاء بينهما، إلا أن الصينيين لم يتأثروا بالهزيمة، وكان الجو العام في الملعب ودياً إلى أقصى درجة، وتصرف فيه كل لاعب صيني أو أميركي كـ"جنتلمان" حقيقي.

والشيء اللافت للنظر في هذا السياق هو أن الهند التي تعتبر أكبر المنافسين للصين في القارة الآسيوية من حيث الحجم وعدد السكان، تتمتع بسجل أولمبي ضعيف للغاية لا يليق ببلد تجاوز حجم سكانه مليار نسمة. ويتبين لنا هذا بوضوح إذا ما عرفنا أن كل إنجازات الهند الأولمبية تنحصر في الفوز بالميدالية الذهبية للهوكي (فرق) ثماني مرات كان آخرها عام 1980 (ولم تفز بأي ميدالية ذهبية منذ ذلك العام). وقد استمر هذا الوضع حتى الدورة الحالية التي لم تفز الهند قبلها بميدالية ذهبية واحدة في المسابقات الفردية. ولكن هذا العقم في إحراز الميديات انتهى في الدورة الحالية عندما حصل الرامي الهندي "أبينهاف بيندرا" على الميدالية الذهبية في مسابقة الرمي بالبندقية الهوائية من مسافة 10 أمتار. وبعد هذا الفوز، الذي جاء بمثابة مناسبة سعيدة للغاية بالنسبة للهنود، تحول "بيندرا" إلى بطل قومي بين عشية وضحاها. ومن الممكن أن تلهم الاحتفالات الوطنية الهندية التي جرت بمناسبة هذا الفوز السلطات في نيودلهي ضرورة الاستثمار في البرامج الرياضية، لتشجيع الشباب على الانخراط في المسابقات الرياضية التنافسية، بدلاً من الاقتصار على الاهتمام بالمنافسات الجماعية مثل الكريكيت، وهوكي الميدان، والاسكواش، وسواها.

وليس هناك شك في أن المناسبات الرياضية الدولية مثل الألعاب الأولمبية، ودورة ألعاب آسيا والكومنولث، أو حتى مسابقات كرة القدم الأكثر شعبية على المستوى الإقليمي والدولي، وخصوصاً مسابقة كأس العالم، تساهم كلها في تكريس شعور بالوحدة العالمية والمنافسة الشريفة.

ومن المعروف في هذا السياق أن جنوب أفريقيا ستستضيف كأس العالم لكرة القدم عام 2010. وأنها مثلها في ذلك مثل الصين، تعتبر إقامة هذه المسابقة مناسبة لاستعراض تقدمها في مرحلة ما بعد "الفصل العنصري"، ولإثبات صحة دعواها بأنها أكثر الدول الواقعة جنوب الصحراء تقدماً.

أما بالنسبة للدول الأصغر حجماً، التي لا تتوافر لديها الإمكانيات لاستضافة الأولمبياد، أو كأس العالم، فإن إقدامها على تنظيم، واستضافة مسابقات رياضية إقليمية، ومباريات عالمية للتنس والجولف، وسباقات الفروسية، سيحقق لها فوائد جمة لن تقتصر على الانتعاش السياحي فحسب وإنما ستمتد لتشمل تحسين سمعتها في مجال التنظيم والإدارة، وهو ما يمكن أن تكون له انعكاسات إيجابية على التطور الاقتصادي والتدفقات الاستثمارية.

ويبقى سؤال أخير: هل سيكون للاستثمارات الصينية الضخمة في دورة الألعاب الأولمبية في بكين مردود مالي إيجابي عليها في النهاية؟ لن يمكن معرفة الإجابة النهائية على هذا السؤال، سوى بعد انقضاء بعض الوقت، ولكن الشيء الذي لا يختلف عليه كثيرون هو أن الصين تمضي في طريقها لأن تصبح قوة عالمية.

ولعل النغمة الوحيدة المتشائمة التي سمعناها منذ أن بدأت هذه الدورة هي أنها تزامنت مع استخدام صارخ للقوة العسكرية ضد جورجيا من جانب روسيا التي تعتبر نفسها من القوى الصاعدة حديثاً، ولم تكن راضية بحال عن الاستفزازات التي كانت تمارسها جورجيا ضد أوسيتيا الجنوبية، والتي وصلت إلى ذروتها بقيامها بشن هجوم على تلك المقاطعة.

وتزامن دورة الألعاب الأولمبية في بكين مع الهجوم الروسي على جورجيا، يذكرنا بقوة بأنه في الوقت الذي تجمع فيه رياضيو العالم في مناسبة تستغرق أسبوعين، فإن الحقائق الاستراتيجية القاسية، وسياسات إظهار القوة، كانت تتأجج حول الشعلة الأولمبية والعرس الأولمبي، في العديد من مناطق العالم.